فصل: من ملك مصر قبل الإسلام

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


 من ملك مصر قبل الإسلام

فأما من ملك مصر بعد من تقدم ذكره من أولادهم وغيرهم فقال المسعودي‏:‏ وكان بيصر بن حام بن نوح قد كبرت سنه فأوصى إلى الأكبر من ولده وهو مصر وأجمع الناس على أنه ملك من حد رفح من أرض فلسطين من بلاد الشأم وقيل‏:‏ من العريش وقيل‏:‏ من الموضع المعروف بالشجرة وهو آخر أرض مصر والفرق بينها وبين الشأم وهو الموضع المشهور بين العريش ورفح إلى بلاد أسوان من بلاد الصعيد طولًا ومن آيلة وهي تخوم الحجاز إلى برقة عرضًا‏.‏

وكان لمصر أولاد أربعة وهم‏:‏ قبط وأشمون وأتريب وصا‏.‏

وقد تقدم ذكر ذلك غير أننا نذكره في سياق كلام المسعودي أيضًا إذ لا يتم المراد إلا بذكره ليتناسق الأسلوب‏.‏

قال‏:‏ وقسم مصر بين ولده الأربعة الأرض أرباعًا وعهد إلى الأكبر من ولده وهو قبط - وأقباط مصر يضافون في النسب إلى أبيهم قبط بن مصر وأضيفت المواضع إلى سكانها وعرفت بأسمائهم واختلطت الأنساب وكثر ولد قبط وهم الأقباط فغلبوا على سائر الأرض ودخل غيرهم في أنسابهم‏.‏

ولما هلك قبط بن مصر ملك بعده أشمون بن مصر ثم ملك بعده صابن مصر ثم ملك بعده أتريب بن مصر ثم ملك بعده ماليق بن دارس ثم ملك بعده حرايا بن ماليق ثم ملك بعده كلكي بن حرايا وأقام في الملك نحوًا من مائة سنة ثم ملك بعده أخ له يقال له‏:‏ ماليا بن حرايا ثم ملك بعده لوطس بن ماليا نحوًا من سبعين سنة ثم ملكت بعده ابنة له يقال لها‏:‏ حوريا بنت لوطس بن ماليا نحوًا من ثلاثين سنة ثم ملكت بعدها امرأة أخرى يقال لها‏:‏ ماموم‏.‏

ثم كثر ولد بيصر بن حام بن نوح بأرض مصر وتشعبوا وملكوا النساء فطمعت فيهم ملوك الأرض فسار إليهم من الشأم ملك من العماليق يقال له‏:‏ الوليد بن دومع فكانت له بها حروب حتى غلب على الملك وانقادوا إليه واستقام له الأمر حتى هلك ثم ملك بعده الريان بن الوليد العملاقي وهو فرعون يوسف عليه السلام ثم ملك بعده دارم بن الريان العملاقي ثم ملك بعده كامس بن معدان العملاقي ثم ملك بعده الوليد بن مصعب وهو فرعون موسى عليه السلام وقد اختلف فيه فمن الناس من يقول‏:‏ إنه من العماليق ومنهم من رأى أنه من لخم من بلاد الشأم ومنهم من رأى أنه من الأقباط من ولد مصرن بيصر وكان يعرف بظلما وهلك فرعون غرقًا حين خرج في طلب بني إسرائيل ولما غرق فرعون ومن كان معه من الجنود خشي من بقي بأرض مصر من الذراري والنساء والصبيان والعبيد أن يغزوهم ملوك الشأم والمغرب فملكوا عليهم امرأة ذات رأي وحزم يقال لها‏:‏ دلوكة فبنت على ديار مصر حائطًا يحيط بجميع أرضها والبلاد وجعلت عليه المحارس والأجراس والرجال متصلة أصواتهم بقرب بعضهم من بعض وأثر هذا الحائط باق إلى هذا اليوم وسنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة وهو يعرف بحائط العجوزة وقيل‏:‏ إنما بنته خوفًا على ولدها فإنه كان كثير الصيد فخافت عليه سباع البر والبحر واغتيال من جاوز أرضهم من الملوك فحوطت الحائط من التماسيح وغيرها وقد قيل في ذلك غير هذا أيضًا‏.‏

فملكتهم دلوكة المذكورة ثلاثين سنة واتخذت بمصر البرابي والصور وأحكمت آلات السحر وجعلت في البرابي صور من يرد من كل ناحية ودوابهم إبلًا كانت أم خيلًا وصورت فيها أيضًا من يرد في البحر من المراكب من بحر المغرب والشأم وجمعت في هذه البرابي العظيمة المشيدة البنيان أسرار الطبيعة وخواص الأحجار والنبات والحيوان وجعلت ذلك في أوقات حركات فلكية واتصالها بالمؤثرات العلوية فكانوا إذا ورد إليهم جيش من نحو الحجاز أو اليمن عورت تلك الصور التي في البرابي من الإبل وغيرها فيتعور ما في ذلك الجيش وينقطع عنهم ناسه وحيوانه وإذا كان الجيش من نحو الشأم فعلت بتلك الصور أيضًا ما فعلت كما وصفنا وكذلك من أتاهم في المراكب فهابتهم الأمم والملوك ومنعوا ناحيتهم من عدوهم فاتصل ملكهم بتدبير هذه العجوز إلى عدة أقطار ثم عرفت بمجيء الطوفان ثانية فخافت على هذه الصور والعلوم أن تذهب فبنت عدة برابٍ وجعلت فيها علومها من الصور والتماثيل والكتابة وجعلت بنيانها نوعين‏:‏ طينًا وحجرًا وفرزت ما يبنى بالطين مما يبنى بالحجر وقالت‏:‏ إن كان هذا الطوفان نارًا استحجر ما بنينا بالطين وبقيت هذه العلوم وإن كان الطوفان الوارد ماءً ذهب ما بنينا بالطين وبقي ما بنينا بالحجارة وإن كان الطوفان سيفًا بقي كلا النوعين‏.‏

ولما ماتت دلوكة العجوز المذكورة ملك مصر بعدها دركوس بن بلطيوس ثم ملك بعده بورس بن دركوس ثم ملك بعده لعس بن نورس نحو أمن خمسين سنة ثم ملك بعده دنيا بن نورس نحوا من عشرين سنة ثم ملك بعده نلوطس عشر سنين ثم ملك بعده مماكيل بن بلوطس ثم ملك بعده يلونة بن مماكيل وكانت له حروب ومسير في الأرض وهو فرعون الأعرج الذي غزا بني إسرائيل وخرب بيت المقدس ثم ملك بعده مرينوس وكانت له أيضًا حروب بالمغرب ثم ملك بعده نقاس بن مرينوس ثمانين سنة ثم ملك بعده قويس بن نقاس عشر سنين ثم ملك بعده كاميل وكانت له أيضًا حروب مع ملوك المغرب وغزاه البخت نضر مرزبان المغرب من قبل ملك فارس فخرب أرضه وقتل رجاله وسار البخت نصر إلى نحو المغرب‏.‏

ولما زال أمر البخت نصر ومن كان معه من جنود فارس ملكت الروم مصر وغلبت عليها فتنصر أهلها فلم يزالوا على ذلك إلى أن ملك كسرى أنوشروان فغلبت جيوشه على الشأم وسارت نحو مصر فملكوها وغلبوا على أهلها نحوًا من عشرين سنة فكانت بين الروم وفارس حروب كثيرة وكان أهل مصر يؤدون خراجين عن بلادهم‏:‏ خراجًا لفارس وخراجًا للروم ثم انجلت فارس عن مصر والشأم لأمر حدث في دار مملكتهم فغلبت الروم على مصر والشأم وأشهروا النصرانية فشمل ذلك من في الشأم ومصر إلى أن أتى الله بالإسلام وكان من أمر المقوقس صاحب مصر مع النبي صلى الله عليه وسلم من الهدايا ما كان إلى أن افتتحها عمرو بن العاص بمن كان معه من الصحابة في خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه حسبما ذكرناه في أول ذلك الكتاب‏.‏

وكان المقوقس ملك مصر وصاحب القبط نزيل الإسكندرية في بعض فصول السنة وفي بعضها مدينة منف وفي بعضها قصر الشمع وقصر الشمع في وسط مدينة الفسطاط‏.‏

والمقصود من ذكر ذلك أن الذين ملكوا مصر باتفاق كثير من أهل التاريخ على اختلاف بينهم من الفراعنة وغيرهم‏:‏ اثنان وثلاثون فرعونًا ومن ملوك بابل ممن ملك مصر‏:‏ خمسة ومن العماليق وهم الذين قدموا إليها من الشأم‏:‏ أربعة ومن الروم‏:‏ سبعة ومن اليونانيين‏:‏ عشرة وذلك قبل ظهور المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام وملكها أناس من ملوك الفرس من الأكاسرة فكانت مدة من ملك مصر من بني نوح والفراعنة والعماليق والروم واليونانيين ألف سنة وثلاثمائة سنة‏.‏

قلت‏:‏ وهذا الذي ذكرناه على سبيل الاستطراد وشرط كتابنا هذا ألا نذكر فيه إلا من ملك مصر في الإسلام ومن ذكرناه من هؤلاء زيادة ليست بمنكرة لتحصيل الفائدة‏.‏

قال المسعودي‏:‏ وسألت جماعة من أقباط مصر بالصعيد وغيره من أهل الخبرة عن تفسير اسم فرعون فلم يخبروني عن معنى ذلك ولا تحصل لي في لغتهم فيمكن - والله أعلم - أن هذا الاسم كان سمة لملوك تلك الأعصار وأن تلك اللغة تغيرت كتغير الفهلوية وهي الفارسية الأولى إلى الفارسية الثانية وكاليونانية إلى الرومية وتغير الحميرية وغير ذلك من اللغات‏.‏

انتهى كلام المسعودي‏.‏

قلت‏:‏ وليس بمستبعد هذه المقالة لأن لسان العرب وهو أشرف الألسن وبه نزل القرآن الكريم قد تغير الآن غالبه وصارت العامة وغيرها تتكلم بكلام لو سمعه بعض أعراب ذلك الزمان لما فهموه لتغير ألفاظه وكذلك اللغة التركية فإن لسان المغل الآن لا يعرفه جند زماننا هذا ولا يتحدثون به ولو سمعوه لما فهموه وأشياء كثيرة من هذا ونشرع الآن بذكر ما نحن بصدده ومن لأجله صنف هذا الكتاب وهم ملوك مصر والقاهرة ونبدأ بترجمة عمرو بن العاص - رضي الله عنه لأنها فتحت على يديه وهو أول من وليها من المسلمين‏.‏

ولاية عمرو بن العاص الأولى على مصر هو عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن حصيص بن كعب بن لؤي بن غالب أبو عبد الله وقيل‏:‏ أبو محمد القرشي السهمي الصحابية أسلم يوم الهدنة وهاجر واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش غزوة ذات السلاسل وفيه أبو بكر وعمر لخبرته بمكيدة الحرب‏.‏

ثم ولي الإمرة في غزوة الشأم لأبي بكر وعمر ثم افتتح مصر حسبما تقدم ذكره ووليها لعمر أولًا ثم وليها لمعاوية بن أبي سفيان ثانيًا على ما يأتي ذكره‏.‏

وحكى ابن سعد في كتاب الطبقات‏:‏ أنه أسلم بعد الحد يبية هو وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة‏.‏

قال الحافظ أبو عبد الله شمس الدين محمد الذهبي في تاريخ الإسلام‏:‏ وله عدة أحاديث روى عنه ابناه عبد الله ومحمد وأبو عثمان النهدي وقبيصة بن ذؤيب وعلي بن رباح وعبد الرحمن بن شماسة وآخرون وقدم دمشق رسولًا من أبي بكر إلى هرقل وله بدمشق دار عند سقيفة كردوس ودار عند باب الجابية تعرف ببني حجيجة ودار عند عين الحمار وأمه عنزية وكان قصيرا يخضب بالسواد‏.‏

حدثنا ابن لهيعة عن مشرح عن عقبة بن عامر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص ‏"‏ رواه الترمذي‏.‏

وقال ابن أبي مليكة قال طلحة بن عبيد الله‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ عمرو بن العاص من صالحي قريش ‏"‏ أخرجه الترمذي وفيه انقطاع‏.‏

وقال حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ابنا العاص مؤمنان هشام وعمرو ‏"‏‏.‏

وقال ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أخبرني سويد بن قيس عن قيس بن سمي‏:‏ أن عمرو بن العاص قال‏:‏ يا رسول الله أبايعك على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي قال‏:‏ ‏"‏ إن الإسلام والهجرة يجبان ما كان قبلهما ‏"‏ قال‏:‏ فوا لله ما ملأت عيني منه ولا راجعته بما أريد حتى لحق بالله حياءً منه‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ قال رجل لعمرو بن العاص‏:‏ أرأيت رجلًا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحبه أليس رجلًا صالحًا قال‏:‏ بلى قال‏:‏ قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحبك وقد استعملك قال‏:‏ بلى فوا لله ما أدري أحبًا كان لي منه أو استعانةً بي ولكن سأحدثك برجلين مات وهو يحبهما‏:‏ عبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر فقال الرجل‏:‏ ذاك قتيلكم يوم صفين قال‏:‏ قد والله فعلنا‏.‏

وروي أن عمرًا لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان على عمان فأتاه كتاب أبي بكر بذلك‏.‏

قال ضمرة عن الليث بن سعد‏:‏ إن عمر - رضي الله عنه - نظر إلى عمرو بن العاص يمشي فقال‏:‏ ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميرًا‏.‏

قال الذهبي بعد كلام ساقه‏:‏ ثم إن عمرًا قال لمعاوية - يعني في أيام وقعة صفين‏:‏ يا معاوية أحرقت كبدي بقصصك‏.‏

أترى أنا خالفنا عليًا لفضلٍ منا عليه‏!‏ لا والله إن هي إلا الدنيا نتكالب عليها وأيم الله لتقطعن لي قطعة من دنياك أو لأنابذنك‏.‏

قال‏:‏ فأعطاه مصر يعطي ويروى أن عليًا كتب إلى عمرو يتألفه فلما أتاه الكتاب أقرأه معاوية وقال‏:‏ قد ترى فإما أن ترضيني وإما أن ألحق به‏!‏ قال‏:‏ فما تريد قال‏:‏ مصر فجعلها له‏.‏

وعن يزيد بن أبي حبيب وغيره أن الأمر لما صار لمعاوية استكثر طعمة مصر لعمرو ورأى عمرو أن الأمر كله قد صلح به وبتدبيره وعنائه وظن أن معاوية سيزيده الشأم مع مصر فلم يفعل معاوية فتنكر له عمرو فاختلفا وتغالظا فدخل بينهما معاوية بن حديج فأصلح بينهما وكتب بينهما كتابًا‏:‏ إن لعمرو ولاية مصر سبع سنين وأشهد عليهما شهودًا ثم مضى عمرو إليها سنة تسع وثلاثين أعني في ولايته الثانية فما مكث نحو ثلاث سنين حتى مات‏.‏

قال‏:‏ وكان عمرو من أفراد الدهر دهاء وجلادة وحزمًا ورأيًا وفصاحة‏.‏

ذكر محمد بن سلام الجمحي أن عمر بن الخطاب كان إذا رأى رجلًا يتلجلج في كلامه يقول‏:‏ خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد‏.‏

وقال مجالد عن الشعبي عن قبيصة عن جابر قال‏:‏ صبحت عمر بن الخطاب فما رأيت أقرأ لكتاب الله منه ولا أفقه في دين الله منه ولا أحسن مداراةً منه وصحبت طلحة بن عبيد الله فما رأيت رجلًا أعطى للجزيل منه من غير مسألة وصحبت معاوية فما رأيت رجلًا أحلم منه وصحبت عمرو بن العاص فما رأيت رجلًا أبين أو قال أنصع ظرفًا منه ولا أكرم جليسًا ولا أشبه سريرة بعلانيةٍ منه وصحبت المغيرة بن شعبة فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بمكر لخرج من أبوابها كلها‏.‏

وقال موسى بن علي بن رباح‏:‏ حدثنا أبي حدثنا أبو قيس مولى عمرو بن العاص أن عمرًا كان يسرد الصوم وقلما كان يصيب من العشاء أول الليل أكثر ما كان يأكل في السحر‏.‏

وقال عمرو بن دينار‏:‏ وقع بين المغيرة بن شعبة وبين عمرو بن العاص كلام فسبه المغيرة فقال عمرو‏:‏ يا آل هصيص أيسبني ابن شعبة‏!‏ فقال عبد الله ابنه‏:‏ إنا لله‏!‏ دعوت بدعوى القبائل وقد نهي عنها‏!‏ فأعتق عمرو ثلاثين رقبة‏.‏

انتهى كلام الذهبي باختصار‏.‏

قلت‏:‏ ولما ولي عمرو بن العاص مصر ودخلها سكن الفسطاط‏.‏

ولسبب تسمية مصر بالفسطاط أقوال كثيرة منها‏:‏ أن عمرًا لما أراد التوجه لفتح الإسكندرية أمر بنزع فسطاطه أعني خيمته فإذا فيه يمامة قد فرخت فقال عمرو‏:‏ لقد تحرم منا بمتحرم فأمر به فأقركما هو وأوصى به صاحب القصر فلما قفل المسلمون من الإسكندرية قالوا‏:‏ أين ننزل قالوا‏:‏ الفسطاط - يعنون فسطاط عمرو الذي خلفه بمصر مضروبًا لأجل اليمامة فغلب عليه ذلك - وكان موضع الفسطاط المذكور موضع الدار الذي تعرف اليوم بدار الحصار عند دار عمرو الصغيرة بمصر‏.‏

وقال الشريف محمد بن أسعد الجواني‏:‏ كان فسطاط عمرو عند درب الحمام شمول بخط الجامع ولما رجع عمرو من الإسكندرية في سنة إحدى وعشرين أو غيرها نزل موضع فسطاطه وتنافست القبائل بعضها مع بعض في المواضع فولى عمرو بن العاص معاوية بن حديج التجيبي وشريك بن سمي الغطيفي وعمرو بن قحزم الخولاني وحيويل بن ناشرة المعافري على الخطط وكانوا هم الذين نزلوا الناس وفصلوا بين القبائل وذلك في سنة إحدى وعشرين من الهجرة واستمر عمرو على عمله بمصر وشرع في بناء جامعه بمصر إلى أن عزله عثمان عن ولاية مصر في سنة خمس وعشرين بعبد الله بن سعد بن أبي سرح بعد أن أنتقض صلح أهل الإسكندرية وغزاه عمرو في السنة المذكورة‏.‏

وسبب ذلك أن ملك الروم بعث إليهم منويل الخصي في مراكب من البحر فطمعوا في النصرة ونقضوا دينهم فغزاهم عمرو في ربيع الأول سنة خمس وعشرين فافتتح الأرض عنوة والمدينة صلحًا‏.‏

ثم استأذن عمرًا عبد الله بن سعد بن أبي سرح في غزوة إفريقية فأذن له عمرو بن العاص وبعد قليل عزله عثمان في هذه السنة بعبد الله بن أبي سرح المذكور - وعبد الله بن أبى سرح أخو عثمان لأمه - وقيل‏:‏ إن ذلك كان في سنة سبع وعشرين والذي قلنا الأقوى وهذه ولاية عمرو بن العاص على مصر الأولى‏.‏

وتأتي بقية ترجمته ووفاته في ولايته الثانية إن شاء الله تعالى‏.‏

- وكان قدم على عمر مرتين استخلف في إحداهما زكريا بن جهم العبدري وفي الثانية ابنه عبد الله - فلما قدم عمرو على عثمان سأله عزل عبد الله بن سعد ابن أبي سرح عن صعيد مصر وكان عمر قد ولاه صعيد مصر فامتنع عثمان من ذلك وعزله عن مصر وعقد لعبد الله بن سعد بن أبي سرح على مصر كلها مضافةً للصعيد وغيره فكانت ولاية عمرو بن العاص على مصر في المرة الأولى أربع سنين وأشهرًا‏.‏

بناء جامع عمرو بن العاص بمصر كان خانًا والذي حاز موضعه قيسبة بن كلثوم التجيبي أبو عبد الله أحد بني سوم فلما رجعوا من الإسكندرية سأل عمرو قيسبة المذكور في منزله هذا يجعله مسجدًا فقال له قيسبة‏:‏ فإني أتصدق به على المسلمين فسلمه إليهم واختط مع قومه بني سوم في تجيب وبني الجامع في سنة إحدى وعشرين وكان طوله خمسين ذراعًا في عرض ثلاثين ويقال‏:‏ إنه وقف على إقامة قبلته ثمانون رجلًا من الصحابة منهم‏:‏ الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود وعبادة بن الصامت وأبو الدرداء وأبو ذر الغفاري وأبو بصرة الغفاري ومحمية بن جزء الزبيدي ونبيه بن صواب وغيرهم‏.‏

وكانت القبلة مشرقة جدًا وإن قرة بن شريك لما هدم المسجد المذكور وبناه في زمان الوليد بن عبد الملك بن مروان تيامن بها قليلًا‏.‏

وذكر أن الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة كانا يتيامنان إذا صليا في المسجد الجامع ولم يكن للمسجد الذي بناه عمرو محراب مجوف بل عمد قائمة بصدر الجدار وإنما قرة بن شريك المذكور جعل المحراب المجوف‏.‏

وأول من أحدث ذلك عمر بن عبد العزيز وهو يومئذ عامل الوليد بن عبد الملك على المدينة ليالي أسس مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هدم وزاد فيه‏.‏

وكان لمسجد عمرو بابان يقابلان دار عمرو بن العاص وبابان في بحريه وبابان في غربيه وكان الخارج من زقاق القناديل يجد ركن الجامع الشرقي محاذيًا لركن دار عمرو الغربي وذلك قبل أن أخذ من دار عمرو بن العاص ما أخذ وكان طوله من القبلة إلى البحري مثل طول دار عمرو وسقفه مطأطئًا جدًا ولا صحن له وكان الناس في الصيف يصطفون بفنائه وكان بينه وبين دار عمرو سبعه أذرع وكان الطريق محيطًا به من جميع جوانبه‏.‏

وكان عمرو قد اتخذ منبرًا فكتب إليه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يعزم عليه في كسره ويقول‏:‏ أما بحسبك أن تقوم قائمًا والمسلمون جلوس تحت عقبيك‏!‏ فكسره عمرو‏.‏

وأول من صلي عليه من الموتى به في داخله أبو الحسين سعيد بن عثمان صاحب الشرطة في النصف من صفر وكانت وفاته فجأة فأخرج وصلي عليه خلف المقصورة وكبر عليه خمسًا ولم يعلم أحد قبله صلي عليه بالجامع وأنكر الناس ذلك‏.‏

وأول من زاد في الجامع المذكور مسلمة بن مخلد الأنصاري أمير مصر في أيام معاوية سنة ثلاث وخمسين فزاد فيه من بحريه وجعله رحبة في البحري وبيضه وزخرفه ولم يغير البناء القديم ولا أحدث في قبليه ولا غربيه شيئًا‏.‏

وذكر أنه زاد فيه من شرقيه حتى ضاق الطريق بينه وبين دار عمرو بن العاص وفرشه بالحصر وكان مفروشًا قبل ذلك بالحصباء‏.‏

وقيل‏:‏ إن مسلمة نقض ما كان عمرو بناه وزاد فيه من شرقيه وجعل له صوامع وبنى فيه أربع صوامع في أركانه الأربعة وأمر ببناء المنارات في جميع المساجد وأمر مسلمة أن يكتب اسمه على المنائر وأمر مؤذني المسجد الجامع أن يؤذنوا للفجر إذا مضى نصف الليل فإذا فرغوا من آذانهم أذن كل مؤذن في الفسطاط في وقت واحد فكان لآذانهم دوي شديد وأمر ألا يضرب بناقوس عند وقت الأذان أعني الفجر‏.‏

ثم إن عبد العزيز بن مروان هدمه سنة تسع وسبعين وهو أمير مصر من قبل أخيه عبد الملك بن مروان وزاد فيه من ناحية الغرب وأدخل فيه الرحبة التي كانت في بحريه ولم يجد في شرقيه موضعا يوسعه به‏.‏

وذكر الكندي في كتاب الأمراء أنه زاد فيه من جوانبه كلها ويقال‏:‏ إن عبد العزيز المذكور لما أكمل بناء المسجد المذكور خرج من دار الذهب عند طلوع الفجر فدخل المسجد فرأى في أهله خفة فأمر بأخذ الأبواب على من فيه ثم دعاهم رجلًا رجلًا يقول للرجل‏:‏ ألك زوجة فيقول‏:‏ لا فيقول‏:‏ زوجوه ألك خادم فيقول‏:‏ لا فيقول‏:‏ اخدموه أحججت فيقول‏:‏ لا فيقول‏:‏ أحجوه أعليك دين فيقول‏:‏ نعم فيقول‏:‏ اقضوا دينه فأقام المسجد بعد ذلك دهرًا عامرًا ثم إلى اليوم‏.‏

وذكر أن عبد الله بن عبد الملك بن مروان في ولايته على مصر من قبل أخيه الوليد أمر برفع سقف المسجد الجامع وكان مطأطئًا وذلك في سنه تسع وثمانين‏.‏

ثم إن قرة بن شريك العبسي بن قيس عيلان هدمه في مستهل سنة اثنتين وتسعين بأمر الوليد بن عبد الملك بن مروان وقرة أمير على مصر من قبله وابتدأ في بنائه في شعبان من السنة المذكورة وجعل على بنائه يحيى بن حنظلة مولى بني عامر بن لؤي وكانوا يجمعون الجمعة في قيسارية العسل حتى فرغ من بنائه في رمضان سنة ثلاث وتسعين ونصب المنبر الجديد في سنة أربع وتسعين ونزع المنبر الذي كان في المسجد وذكر أن عمرو بن العاص كان جعله فيه‏.‏

قلت‏:‏ ولعله كان وضعه بعد وفاة عمر بن الخطاب فإنه كان منعه حسبما ذكرناه وقيل‏:‏ هو منبر عبد العزيز بن مروان‏.‏

وذكر أنه حمل إليه من بعض كنائس مصر‏.‏

وذكر أن زكريا بن مرقى ملك النوبة أهداه إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح وبعث معه نجارًا يسمى بقطر أمن أهل دندرة حتى ركبه ولم يزل هذا المنبر في الجامع إلى أن زاد قرة بن شريك المذكور في الجامع فنصب منبرًا سواه ولم يكن إذ ذاك يخطب في القرى إلا على العصي إلى أن ولي عبد الملك بن مروان بن موسى بن نصير اللخمي مصر من قبل مروان بن محمد فأمر باتخاذ المنابر في القرى وذلك في سنة اثنتين وثلاثين ومائة ولا يعرف منبر أقدم من منبر قرة بن شريك بعد منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل كذلك إلى أن قلع وكسر أيام العزيز بالله نزار العبيدي بنظر الوزير ابن كلس في يوم الخميس لعشر بقين من شهر ربيع الأول سنة تسع وسبعين وثلاثمائة وجعل مكانه منبر مذهب ثم أخرج هذا المنبر إلى الإسكندرية وجعل بجامع عمرو بن العاص الذي بها ثم أنزل المنبر الكبير إلى الجامع المذكور في أيام الحاكم بأمر الله العبيدي في شهر ربيع الأول سنة خمس وأربعمائة وصرف بنو عبد السميع عن الخطابة وجعلت خطابته لجعفر بن الحسن بن خداع الحسيني وجعل إلى أخيه الخطابة في الجامع الأزهر وصرف بنو عبد السميع بن عمر بن الحسين بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس من جميع المنابر بعد أن أقاموا هم وسلفهم فيها ستين سنة ثم وجد بعد ذلك المنبر الجديد الذي نصب بالجامع قد لطخ بالقذر نركل به من يحفظه وعمل له غشاء من أدم مذهب وخطب عليه ابن خداع وهو مغشى‏.‏

وكانت زيادة قرة بن شريك من القبلي والشرقي وأخذ بعض دار عمرو بن العاص وابنه عبد الله فأدخله في المسجد وأخذ منهما الطريق التي بين المسجد وبينهما وعوض أولاد عمرو ما هو في أيديهم من الرباع التي في زقاق مليح في النحاسين وقشرة وأمر قرة بعمل المحراب المجوف وهو المحراب المعروف بمحراب عمرو لأنه في سمت محراب المسجد القديم الذي بناه عمرو وكانت قبلة المسجد القديم عند العمد المذهبة في صف التوابيت وهي أربعة عمد‏:‏ اثنان في مقابلة اثنين وكان قرة قد أذهب رؤوسها ولم يكن في المسجد عمد مذهبة غيرها وكانت قديما حلقة أهل المدينة ثم زوق أكثر العمد وطوق في أيام الإخشيد سنة أربع وعشرين وثلاثمائة ولم يكن للمسجد أيام قرة غير هذا ا لمحراب‏.‏

فأما المحراب الأوسط فيعرف بمحراب عمر بن مروان أخي عبد الملك بن مروان الخليفة ولعله أحدثه في الجدار بعد قرة وذكر قوم أن قرة عمل هذين المحرابين وصار للجامع أربعة أبواب في شرقيه آخرها باب إسرائيل وهو باب النحاسين وفي غربيه أربعة أبواب شاردة في زقاق يعرف بزقاق البلاط وفي بحريه ثلاثة أبواب‏.‏

انتهى ما أوردناه من أمر جامع عمرو بن العاصي المذكور - رضي الله عنه‏.‏

بناء بيت المال وأما بناء عمرو بن العاص لبيت المال بالفسطاط - فالأصح أن ما بناه أسامة بن زيد التنوخي متولي الخراج بمصر في سنة سبع وتسعين في خلافة سليمان بن عبد الملك بن مروان وأمير مصر يوم ذاك عبد الملك بن رفاعة الآتي ذكره في موضعه إن شاء الله تعالى‏.‏

وقد خرجنا عن المقصود لطلب الفائدة ونعود إلى ذكر عمرو بن العاص - رضي الله عنه‏.‏

قيل‏:‏ إنه رئي وهو على بغلة هرمة وهو إذ ذاك أمير مصر فقيل له‏:‏ أتركب هذه وأنت أمير مصر فقال‏:‏ لا ملل عندي لدابتي ما حملتني ولا لامرأتي ما أحسنت عشرتي ولا لصديقي ما حفظ سري إن الملل من كواذب الأخلاق‏.‏

وعن عمرو قيل له‏:‏ صف الأمصار قال‏:‏ أهل الشام أطوع الناس للمخلوق وأعصاه للخالق وأهل مصر أكيسهم صغارًا وأحمقهم كبارًا وأهل الحجاز أسرع الناس إلى الفتنة وأعجزهم عنها وأهل العراق أطلبهم للعلم وأبعدهم منه‏.‏

قال مجالد عن الشعبي قال‏:‏ دهاة العرب أربعة‏:‏ معاوية وعمرو والمغيرة بن شعبة وزياد بن أبيه فأما معاوية فللأناة والحلم وأما عمرو فللمعضلات وأما المغيرة فللمبادرة وأما زياد ابن أبيه فللصغير والكبير‏.‏

وقال أبو عمران بن عبد البر‏:‏ كان عمرو من فرسان قريش وأبطالهم في الجاهلية مذكورًا فيهم بذلك وكان شاعرًا محسنًا حفظ عنه فيه الكثير في مشاهد شتى وله يخاطب عمارة بن الوليد بن شعبة عند النجاشي‏:‏ الطويل إذا المرء لم يترك طعامًا يحبه ولم ينه قلبًا غاويًا حيث يمما قضى وطرًا منه وغادر سنة إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما وقال الذهبي في التذهيب‏:‏ روى أحمد بن حنبل عن أبي عبد الله البصري عن أبي مليكة قال‏:‏ قال عمرو بن العاص‏:‏ إني لأذكر الليلة التي ولد فيها عمر‏.‏

قلت‏:‏ ما قال هذا إلا لأنه أسن من عمر فلعل بينهما نحو خمسين سنة‏.‏

انتهى كلام الذهبي باختصار‏.‏